الباب الأول: العلم الحديث و الكتب المقدسة
الفصل الثانى: الاعجاز العلمى فى القران – الدعوى و معارضاتها
المبحث الأول: اشكالات نظرية فى الاعجاز العلمى
1-بين العلم و الدين: يزعم عدد من منكرى الاعجاز العلمى و أنصار العلموية أن أصل الايمان قائم على التسليم لا البرهنة كما يزعمون أن الاستدلال بالوحى فى مسائل العلم داع لترك البحث العلمى و هذه المزاعم تعارض صريح القران. لقد دعا القران الكريم الى البرهنة بل و جعل البرهان الأوسع هو برهان النظم و النظر فى المخلوقات و دقة صنعها و غائية تركيبها بل ان حتى التيار النصرانىفى الغرب له اصدارات واسعة فى مجال دلائل وجود الله.
أما الزعم بأن البحث فى الاعجاز العلمى هو دعوة لترك العلوم التجريبية و الانشغال عنها بالنص الدينى فلا أصل له بل العكس هو الصحيح فهو يدفع المسلم للبحث العلمى بالمنهج التجريبى ليتوصل الى حقائق الكون من ضبط و احكام فيقيم بها الحجة على الأمم المخالفة و هو ما فعله المسلمون عندما طوروا العلوم المختلفة حتى ترجمت كتبهم الى اللاتينية و كانت وقودا لنهضة العلوم فى الغرب.
2-بين الثابت و المتحول: من الاعتراضات الشائعة على الاعجاز العلمى من حيث المبدأ أن الوحى ثابت و العلم متغير فلا يمكن الاستدلال به على الوحى فلربما تغير ما تستدل به مثلا بحلول نظرية محل أخرى و هذا الأمر ليس صحيحا على اطلاقه فالعلماء لديهم ما يعترفون به من القطعيات و التقريرات الثابتة فمثلا وصف الماء كيميائيا بأنه H2O حقيقة يجزمون بها كما يجزمون أيضا بتفاصيل علم الأجنة و عضيات الخلية و تفاعلاتالمركبات الكيميائية و غيرها من الأمور التى نرصدها بوضوح. و الى جانب الرصد المباشر فان اليقين العلمى يمكن أن يتحقق أيضا بالحساب الرياضى فكثير من كشوف الفلك و الظواهر الطبيعية تم التنبؤ بها رياضيا قبل رصدها حسيا. بل ان باب أصل الكون ذاته لا يمكن اعتباره من أمور الخفاء المطلق ففيه من القرائن الكثير كرصد و مشاهدة حالة الكون فى الماضى (بسبب حاجة الضوء لوقت طويل ليصل الينا) و دقة الحسابات الرياضية و تكاثر صدق تخمينات العلماء المبنية على نموذج الانفجار العظيم و حتى من يجادل بأن احاد هذه القرائن لا توصل الى يقين نحتج عليه بأن اجتماعها فى كتاب واحد كتب من 14 قرنا كفيل باثارة النظر.
وجه اخر لهذا الاعتراض هو أن العلم خاضع لمبدأ القابلية للتخطئة Falsification principle بينما لا يخضع له الوحى لدى المؤمنين به و الرد على هذا من أوجه. الوجه الأول أن هذا التعريف للعلم فى حد ذاته محل خلاف بين فلاسفة العلوم و أنه حتى فى حال الاقرار به فهو لا يعنى تخطئة كل المعارف العلمية فمن المعارف ما لا يصححه العلم ببساطة لأنه لم يكن خطئا بل قد يقره و يوسع ادراكنا لتفاصيله. الوجه الثانى أن الدين فى أصوله خاضع للقابلية للتخطئة و القران أخضع نفسه لهذا المبدأ بل و تحدى به بلاغيا و تاريخيا و أركيولوجيا عندما أورد قصص السابقين و لم يخل قول معترض عليه من فساد فأثبت صحة أصوله و مصدريته الالهية لذلك ينطلق المؤمنبه عند التعامل مع تفاصيل بعض الايات العلمية من عدم امكان التعارض بين كتاب الله المسطور و كتابه المنظور "الكون".
المبحث الثانى: اشكالات تطبيقية فى الاعجاز العلمى
اننا لا ننكر وجود التكلف و الشطط فى الممارسات التطبيقية لاثبات الاعجاز العلمى و لكننا ننكر أن يعود ذلك بالابطال على الباب كله بل الصواب هو الاعتدال بين الانكار و الاسراف. يعترض المنصرون و الملاحدة على باب الاعجاز العلمى بثلاث نقاط أساسية:
1-أن المسلمون يسارعون لتبنى النظريات العلمية الحديثة للقول بأن القران أخبر عنها و لكنهم لا يستنبطونها من القران قبل تأكيدها علميا
الرد: لا يمكن للنص الدينى أن يخبر الناس بعكس ما تدركه حواسهم (فقط يخبرهم بما لا تدركه) حتى لا يفتنهم و يدفعهم للكفر به و لكنه يلمح الى هذه الأمور فقط حتى يفهمها الناس لاحقا مع تقدم العلم. أصف الى ذلك أن هذه اللفتات فى القران قليلة فلا يمكن أن تكون موجها للبحث العلمى و مع ذلك فقد اثرت بالفعل فى عدة اختيارات علمية مخالفة لثقافة عصر التنزيل كموقف علماء الاسلام من قول الطب اليونانى بمشاركة دم الحيض فى خلق الجنين.
2-أن دلالة ايات الاعجاز ظنية
الرد: لا نسلم لهذه الدعوى حيث أن موافقة المعنى الأظهر للاية لحقيقة علمية مع احتمال النص معان أقل ظهورا لا ينفى الاعجاز خاصة مع تكرر هذه الظاهرة. بل حتى ان كانت كل ايات الاعجاز ظنية فان مجموعها يشكل ظاهرة مثيرة للتفكر خاصة فى ظل خرافات عصر التنزيل.
3-أن القران لم يأت بدعوى علمية لم تكن معروفة و شائعة زمن البعثة
الرد: هناك نصوص كثيرة قررت أمورا فى وصف الطبيعة لم تكن معروفة عصر التنزيلكالأصل الدخانى للكون و ترتيب الخلق المخالف للكتاب المقدس و الأمواج الداخلية و غيرها من الأمور التى أشار الله الى أن الناس سيعرفونها ذات يوم "وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ" كما ذكر القران ظواهر طبيعية لم تكن معروفة فى مكة و المدينة و ما جاورهما ككروية الأرض التى قال بها اليونان و رفضها النصارى السريان المتاخمين لهم كما ذكر القران أيضا تقريرات علمية صوبت أخطاء الكتاب المقدس
, أخيرا يتبقى اشكال تطبيقى واحد و هو أن فريقا من المسلمين يجدون حرجا فى تخطئة الكتاب المقدس خوفا من تخطئة نص سماوى مما لم يناله التحريف ظنا منهم أن التحريف حدث فى مواضع محدودة و الحقيقة أن ما كان من خلاف فى تراثنا الاسلامى حول مبلغ التحريف قد حسمه الخبراء و النقاد الغربيون اليوم بوضوح حيث ذهبوا الى ما سبقهم اليه ابن حزم فى كتابه "الفصل فى الملل و الأهواء و النحل" من أن التحريف واسع جدا. يذهب الخبراء اليوم الى أن التوراة المنسوبة الى موسى عليه السلام جل ما فيها ملفق و أنها تعرضت لعملية تنقيح واسعة فى القرن الخامس و أن انجيل المسيح غير أناجيل النصارى اليوم التى ليس فيها سوى كلمات قليلة تصح نسبتها اليه. و نختم بقول أنه فى مسألة تفسير النصوص ما نحكم به على علماء الاسلام فى تفسير القران و السنة هو ذاته ما نحكم به على تفاسير علماء اليهود و النصارى فلا نأخذ قولا لأحادهم الا ان وافق اللغة والسياق و لم يكن مجرد أثر لسلطان لثقافة العصر
Comments